صعود الصين- هل تتحدى بكين حقًا الهيمنة الأمريكية العالمية؟

المؤلف: محمود سلطان09.01.2025
صعود الصين- هل تتحدى بكين حقًا الهيمنة الأمريكية العالمية؟

إن الحضور الدائم والمتزايد للصين في الخطاب السياسي الأمريكي الرسمي، والذي غالبًا ما يكون مشفوعًا بمشاعر القلق والريبة والانتقاد اللاذع، وتقديمها المستمر بصفتها "قوة صاعدة" تمثل تهديدًا وجوديًا عسكريًا واقتصاديًا، فضلًا عن التركيز المفرط على هذه الصورة النمطية في الخطابات الشعبوية الأمريكية، التي تعج بالمناشدات العاطفية وتضخيم المخاطر المترتبة على التنافس الصيني الأمريكي بهدف حشد أكبر قدر من الناخبين، قد أرسى قناعة راسخة، سواء بشكل كامل أو جزئي، بوجود صراع حقيقي على الهيمنة والنفوذ المطلق على خريطة العالم، بين قوتين عظميين وحيدتين، وهما: الولايات المتحدة الأمريكية والصين الشعبية، بينما تكتفي باقي القوى العالمية الأخرى بدور المتفرج السلبي، وتترقب عن كثب النتيجة النهائية لهذا الصراع المحتدم، متوقعة في قرارة نفسها أن تحسم الصين هذا النزال لصالحها بشكل قاطع في مباراة تبدو "من طرف واحد"!

منذ عقد من الزمان، أعلنت الصين عن مبادرتها الطموحة التي أطلقت عليها اسم "صُنع في الصين 2025"، والتي تهدف إلى الارتقاء بالصين إلى صدارة الدول الرائدة في مجموعة واسعة من الصناعات التكنولوجية المتقدمة والمتطورة، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر صناعة الطيران والفضاء، وصناعة السيارات الكهربائية الصديقة للبيئة، وصناعة الروبوتات الذكية، وصناعة الاتصالات الحديثة.

حتى الآن، لم تنشر الحكومة الصينية تقييمًا رسميًا ومفصلًا لخطة "صنع في الصين 2025"، ولا يزال غير واضحًا، ما إذا كان هذا التعتيم الإعلامي نابعًا من حرصها الشديد على عدم استفزاز واشنطن "المنفعلة والمتأهبة"، أم أنه امتثال لشروط السرية المفترضة التي تكتنف مثل هذه المشاريع الكبرى. ومع ذلك، كشف تقرير نشرته صحيفة واشنطن بوست المرموقة العام الماضي أن 86% من الأهداف والغايات المنصوص عليها في الخطة الطموحة قد تم تحقيقها بالفعل على أرض الواقع.

وفي سياق متصل، أعرب خبراء أمريكيون بارزون، خلال جلسة استماع عقدت في الكونغرس الأمريكي حول "صنع في الصين 2025" في شهر فبراير/ شباط الماضي، عن قلقهم البالغ إزاء التقدم المذهل والسريع الذي أحرزته الصين في مجال التصنيع المتقدم، وحذروا بشدة من أن أمريكا تخاطر "بخسارة الثورة الصناعية القادمة"، وذلك مع تزايد وتيرة التقارير التي تؤكد أن الصين "تستعد بالفعل لعالم ما بعد الولايات المتحدة"!

يتفق قطاع واسع من الساسة المؤثرين وصناع القرار في واشنطن على حقيقة مفادها أن أحد الأهداف الرئيسية للحلم الصيني، يتمثل في إزاحة النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي تقويض زعامة واشنطن ونفوذها وقوتها العالمية.

والواقع أن الصين، وعلى مدى عقود طويلة، أدرجت بالفعل، على رأس قائمة أولوياتها وأشواقها وأحلامها، خططًا استراتيجية ممنهجة لتقويض نفوذ الولايات المتحدة في النظام الدولي، ويتفق غالبية الباحثين الصينيين على أن التنافس الإستراتيجي الأمريكي الصيني هو تنافس منهجي ودائم ومستمر، ومُحدد لعصر جديد من العلاقات الدولية.

يصفه يان ييلونغ، الأستاذ المرموق بجامعة تسينغهوا، بأنه "ليس مجرد خلاف عابر بين دولتين ذات سيادة"، بل هو "صراع هيكلي عميق بين التجديد الكبير للأمة الصينية والهيمنة الأمريكية الراسخة".

ويعتقد العديد من الفاعلين السياسيين المؤثرين في بكين، أنه بفضل السياسات التي انتهجها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، باتت الصين أقرب من أي وقت مضى، إلى تحقيق ما تصبو إليه في هذا المضمار.

وإذا كانت سياسته الخارجية تمثل عودة صارخة إلى إمبريالية القرن التاسع عشر، فإنه قد عمل بشكل مذهل أيضًا، وبمفرده، على تفكيك النظام العالمي الذي اعتبرته بكين الأداة الأكثر فاعلية للقوة الأمريكية.

بيد أن السؤال الجوهري الذي يغيب في كثير من الأحيان وسط صخب الأدبيات السياسية، التي تحتفل بصعود الصين اللافت أو البديل الصيني لمرحلة ما بعد الولايات المتحدة، هو ما إذا كانت الصين، قادرة بالفعل على الوفاء بشروط ومتطلبات تولي القيادة العالمية، من جهة، وما إذا كانت أمريكا، في ظل الإدارة الحالية، لا تزال تتفوق على جميع بدائلها المحتملة، بما فيها الصين، في القدرة على ممارسة هيمنتها ونفوذها على العالم، وفرض هيبتها السياسية والعسكرية والاقتصادية عليه، من جهة أخرى.

غالبًا ما يُستشهد، على سبيل المثال، بخطاب شي جين بينغ الشهير عام 2017، أمام المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، كدليل قاطع على نية بكين الواضحة لتغيير دور أمريكا في العالم، وفي ذلك الخطاب التاريخي، يتصور شي الصين "قائدة عالمية" بلا منازع، بعد أن "اقتربت من مركز الصدارة".

والواقع أن الصين عسكريًا، لا تستطيع في الوقت الراهن فرض قوتها ونفوذها على نطاق عالمي واسع، فهي لا تربطها سوى علاقة تحالف عسكري رسمي واحد، مع جارتها كوريا الشمالية، مقارنة بالعدد الهائل من حلفاء الولايات المتحدة البالغ عددهم 51 حليفًا في كل من الأمريكتين وأوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، مما يحد بشكل كبير من نطاق أنشطة الصين العسكرية المحتملة.

تفتقر بكين أيضًا إلى شبكة القواعد العسكرية العالمية الضرورية لبسط نفوذها وتأثيرها في مختلف أنحاء العالم، وبينما تؤكد أجهزة الاستخبارات الأمريكية، أن الصين تعمل بدأب على إنشاء قواعد عسكرية في ثماني دول أخرى خارج الترتيبات القائمة في جيبوتي وكمبوديا، فإن هذا التوسع المحدود لن يمثل فارقًا كبيرًا مقارنة بأكثر من 750 قاعدة عسكرية منتشرة لواشنطن في 80 دولة.

ناهيك عن أن الصين، تواجه أيضًا بعض التحديات الداخلية المتفاقمة، وعلى رأسها مشكلة الفساد المستشري في الجيش الصيني، فقد أُقيل أكثر من اثني عشر ضابطًا عسكريًا رفيع المستوى في قطاع الدفاع، من مناصبهم الحساسة في النصف الثاني من عام 2023، وذلك بسبب مزاعم خطيرة بتورطهم في قضايا فساد مالي وإداري، ما أدى إلى عرقلة تقدم جيش التحرير الشعبي الصيني، نحو تحقيق أهداف التحديث الطموحة المعلنة لعام 2027.

أضف إلى ذلك، أن تكلفة القيادة العالمية، على الطريقة الأمريكية، والتي تقدر بتريليونات الدولارات، باهظة ومكلفة للغاية. وتاريخيًا، أدى التوسع المفرط والإنفاق غير المدروس إلى سقوط العديد من الدول والإمبراطوريات العظمى، التي تعتبر الصين الحالية، أقل منها وزنًا وقيمة وقامة.

خلال ولاية ترامب الأولى، حاولت بكين جاهدة استغلال انعزالية الولايات المتحدة الظاهرة، مصورة نفسها على أنها المدافع الأول عن العولمة والتعددية، وهي تسعى الآن، إلى فعل الشيء نفسه مرة أخرى.

وفي هذا السياق، صرح المسؤول الأعلى للسياسة الخارجية الصينية، وانغ يي، خلال مؤتمر ميونخ للأمن، بأن الصين "توفر أكبر قدر ممكن من اليقين والاستقرار في هذا العالم المضطرب والمتغير".

وبناءً على هذا الخطاب وحده، لا شك أن الصين، تُعد حاليًا طرفًا عالميًا أكثر مسؤولية من الولايات المتحدة، إلا أن نهجها المتبع في القيادة العالمية لا يزال انتقائيًا ومحدودًا، فالمبادرات التي تقودها الصين، والتي صُممت في الغالب كتصريحات معارضة ومناوئة، لا تمثل بعد بدائل موثوقة للمؤسسات والهياكل التي تقودها الولايات المتحدة.

وعلى سبيل المثال، تُسوّق مبادرة الحزام والطريق، لمجموعة فضفاضة وواسعة من الاتفاقيات الثنائية، بدلًا من إطار متكامل للحوكمة العالمية، حيث تُعرَف المبادرات الصينية، مثل مبادرة الأمن العالمي، أو مفاهيم السياسة الخارجية، مثل "مجتمع المصير المشترك" الذي طرحه شي جين بينغ، بمعارضتها الشديدة للهياكل الغربية القائمة، بدلًا من كونها مقترحات بناءة لشيء جديد جوهريًا.

وفي حين أنشأت بكين بالفعل ووسعت نطاق العديد من المؤسسات الدولية، مثل مجموعة البريكس وبنك الاستثمار في البنية الأساسية في آسيا، فقد تم فتح هذه المؤسسات أمام أعضاء جدد من المرجح أن يعملوا على إضعاف نفوذ الصين فيها.

وبسبب نطاقاتها وأهدافها الأكثر محدودية، فإن المؤسسات التي أنشأتها الصين لا تستطيع أن تحل محل نظام الأمم المتحدة، الذي تعترف بكين بأنه الممثل الأول للنظام الدولي، على حد تعبير جاكوب مارديل في مجلة العامل الصيني.

وإذا كان اختلاف المدخلات سيؤدي حتمًا إلى اختلاف المخرجات، فإن انخفاض إنتاجية الصين الملحوظ، والأزمة الديمغرافية المتفاقمة، ومحدودية الموارد الطبيعية المتاحة، تصعب على بكين أن تزعم أو تدعي أنها ستكون مركز القوة العظمى في العالم بحلول عام 2050.

وبعيدًا عن أقوال الصين وأفكارها المعلنة، فإن تصرفات جمهورية الصين الشعبية المتكررة تُظهر بوضوح أنها غير راغبة أو غير قادرة على إزاحة الدور العالمي المحوري للولايات المتحدة الأمريكية.

وفي أحسن الأحوال، فإن هذه التصرفات تنطوي مجتمعة على رؤية لنظام عالمي متعدد الأقطاب تتمتع فيه الصين بمجال نفوذ واسع في منطقة شرق آسيا، وتكون القوة العظمى الأكثر احترامًا وتقديرًا على مستوى العالم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة